الكد والسعاية: المفهوم والمشروعية


الكد والسعاية: المفهوم والمشروعية

الكد والسعاية: المفهوم والمشروعية

المبحث الأول : مفهوم الكد والسعاية:
الكد، في أصل الوضع اللغوي، هو الشدة في العمل، وطلب الكسب والرزق، والإلحاح في الطلب. وفي المثل:  بجدك لا بكدك ؛أي إنما تدرك الأمور بما ترزقه من الجد لا بما تعمله من الكد([1]).
 والسعاية في اللغة ترجع إلى الجذر « س ع ي »؛ تقول : سعى يسعى سعيا، أي قصد وعمل ومشى ونم وكسب([2]). وسعى لهم وعليهم عمل لهم وكسب. والسعي: الكسب. قال الزجاج: أصل السعي في كلام العرب التصرف في كل عمل، ومنه قوله تعالى: « و أن ليس للإنسان إلا ما سعى »([3]). ومعناه : إلا ما عمل([4]). وسعى سعاية باشر عمل الصدقات. وقال الأزهري: استسعاء العبد إذا عتق بعضه، ورق بعضه، وذلك أنه يسعى في فكاك ما رق من رقبته فيعمل فيه، ويتصرف في كسبه حتى يعتق، ويسمى تصرفه في كسبه سعاية، لأنه يعمل فيه([5]).
فتبين من خلال الاستعمال اللغوي للفظتين أن « الكد » و« السعاية » قريبتان في المعنى إلى حد الترادف. فقولهم « الكد والسعاية » إنما هو عطف لمترادفين.
ويطلق على الكد والسعاية كذلك أسماء أخر، منها مايلي :
حق الشقا : يقول الملكي الحسين : « الكد أصلها هو فعل كد يكد ؛ بمعنى عمل بعناء ومشقة ، ومن هنا يسميه البعض حق الشقا»([6]).
حق الجرية أو الجراية : « والجرية كناية على ما حققه الزوجان من أموال تراكمت أثناء زواجهما ، بفضل عمل الزوج خارج البيت ، وعمل الزوجة داخله وخارجه »([7]).
حريق اليد : قالت رجاء مكاوي : « وهو كناية على ما تؤديه الزوجة من خدمات داخل البيت ( المطبخ ) ، وتتأذى منها يداها بسبب تعاملها المستمر مع نار المطبخ »([8]). وهذا التعليل فيه نظر، ذلك أن الفقهاء يتحدثون عن الكد والسعاية فيما سعت فيه المرأة من عمل خارج بيتها لا داخله، ولذلك يحمل ( حريق اليد ) على ما تتأذى به يداها بسبب عملها خارج البيت في الحرث والحصاد والتذرية وغيرها ([9]).
وأما المعنى الاصطلاحي للكد والسعاية فيقول الملكي الحسين : « المعنى الحقوقي للكد والسعاية هو حق المرأة في الثروة التي تنشئها وتكونها مع زوجها خلال فترة الحياة الزوجية »([10]). ويضيف الملكي موضحا هذا التعريف : « وهذا الحق يضمن للزوجة إذا انتهت العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها ، إما بالطلاق أو الوفاة ، بأن يتم تحديد وحساب مجموع الثروة التي تم تكوينها خلال فترة الحياة الزوجية ، فتحصل على جزء منها مقابل ما بذلته من مجهودات مادية ومعنوية إلى جانب زوجها »([11]).
ويلاحظ أن هذا التعريف قصر الكد والسعاية على الزوجة ، وجعله حقا خالصا لها . والحق أن الفقهاء « لم يقصروها على الزوجة المطلقة أو المتوفى عنها فقط ، بل أجازوها في حق كل فرد من أفراد العائلة ، إذ جعلوا ما ينتجه مال الزوج شياعا بين أفراد العائلة ، يقسم بينهم حسب كد كل واحد واجتهاده »([12]).
فتبين أن السعاية « يدخل فيها كل من قدر على الإشتغال والتكسب من أفراد الأسرة ، لذلك نجد الفقهاء يعبرون هكذا : سعاية اليتيم ، سعاية الأخت ، سعاية الاخ ، سعاية الولد ، ومن له عدة زوجات ، فلكل واحدة سعايتها »([13])
المبحث الثاني : مشروعية الكد والسعاية
ﺇن المتتبع لكلام الفقهاء في الكد والسعاية ، يجد أنهم استندوا في القول بها ﺇلى أدلة وحجج من القران الكريم والسنة والعرف والعمل .
اولا : من القران الكريم : اعتمدوا في القول بها على بعض الايات العامة التي تقرر مبدأ العمل ، و « وجوب ﺇعطاء كل ذي حق حقه ، وعدم تضييع عمل كل عامل من ذكر أو أنثى  »([14]) ؛كقوله تعالى « وأن ليس للانسان ﺇلا ما سعى »([15])
فلا يعقل أن تحرم المرأة التي شاركت زوجها ، وكدت في تنمية ثروته من أخذ نصيب منها ،لأنه ظلم وتسلط على أموال الناس بالباطل . يقول عمر الجيدي رحمه الله « ﺇن المرأة البدوية تشارك زوجها في الخدمة ، من حصاد ودرس ورعي وغيرها ، زيادة على الأعباء الأخرى كزوجة وأم ، فالنتاج هو حصيلة جهد مشترك بينهما وليس ملكا خالصا للرجل فمن الظلم أكل أموال الناس بالباطل ، ومنعهم من حقوق ملكيتهم »([16]) . والله تعالى يقول « ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها ﺇلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون »([17]).ويقول تعالى أيضا : « ياأيها الذين أمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﺇلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ».([18])
ثانيا من السنة : استدلوا على مشروعيتها بالأثر الوارد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، في قصته مع عامر بن الحارث وزوجه حبيبة بنت رزق ؛« فقد كان عامرا قصارا ، وزوجته ترقم الأثواب ، حتى اكتسبا مالا كثيرا ، فمات عامر ، وترك الأموال ، فأخذ ورثته مفاتح المخازن والأجنة ، واقتسموا المال ، ثم قامت عليهم زوجته حبيبة المذكورة ، وادعت عمل يدها وسعايتها ، فترافعت مع الورثة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقضى بينهما بشركة المال نصفين ، فأخذت حبيبة النصف بالشركة ، والربع من نصيب الزوج بالميراث ، لأنه لم يترك الأولاد ، وأخذ الورثة الباقي »([19])
ثالثا العرف : ويعد أهم مستند اعتمده فقهاء غمارة وسوس في الافتاء بالكد والسعاية . وهذا ما أكده أبو القاسم بن أحمد الأوزالي التارودانتي([20]) في جواب له عن الزوجة العاملة مع زوجها ، هل لها من السعاية شيء ؟ فقال : « ينبغي للمشاورة في مسألة أن يحضر عند ذلك أمورا تنبني عليها فتواه ، ويجعلها أصلا يرجع ﺇليه أبدا فيما يشير به ذلك ، منها مراعاة العادات في أحوال الناس ، وأقوالهم ، وأزمانهم ، لتجري الأحكام عليها من النصوص المنقولة عن الأئمة ، وقد نقل بعض الناس  الاجماع على مراعاة ذلك وأن الفتاوى تختلف عند اختلاف العادات ، ولا يجوز طردها مع اختلافها (...)  وﺇذا ثبت هذا أقول : ﺇنه لا يجوز الحكم والفتوى في مسألة السؤال ﺇلا بالسعاية ﺇن كان بقي عند الزوجين ما استفاداه ، ولا يحل القضاء لها بالأجرة ، وأن الفتوى بالاجرة  خطأ صريح ونقض الاجماع المذكور»([21])
والعرف عند المصامدة والسوسيين ، أن المرأة العاملة مع زوجها تستحق نصيبا من ثروة الزوجية ، وهذا ما أكده الفقيه عبد السلام ابن عبد السلام الوثيلي بقوله – بعدما حكم بالسعاية لاحداهن - : « والحاصل أن عرف البلاد ( وبلاده هي بني زجل من غمارة ) هو أن المرأة اذا كانت تخدم في دار زوجها ، واشترى أصولا بذلك ، فإنها تأخذ معه الربع في تلك الأشرية »([22])
فلما كان العرف كذلك ، لم يتوان  الفقهاء والقضاة في الافتاء به. يقول ابن عبد الرفيع التونسي([23]) مقررا هذا الأمر « ﺇن قضاة المصامدة وفقهاءهم حكموا بشركة المرأة مع زوجها ، لأن عرف البلاد أن الزوجة مع زوجها يتعاونان في جميع الأشغال »([24]). والعلة من الركون ﺇلى هذا العرف – يقول المدغري – هي « القصد ﺇلى الخروج من الحرج والمشقة الحاصلين في التقويم ، وما يستدعي ذلك من مخابرة أهل الخبرة والنظر ، وما يتطلبه من مصاريف ، وما يجلبه من مشاحة وخصومة ، قد تصل ﺇلى رفع الأمر ﺇلى القاضي »([25])
رابعا ما جرى به العمل : وهو من المستندات المهمة كذلك التي بني عليها القول بالسعاية ، يقول محمد ابن عرضون مقررا هذا الأمر في رده على يحيى السراج([26]) ، الذي أنكر الافتاء بالسعاية : لا يقدح الاشكال في هذه النازلة اقتداء بمن مضى ، فقد وقع للامام ابن عتاب ، وابن رشد ، وابن سهل ، وابن زرب ،وابن العربي ، واللخمي ، ونظائرهم اختيارات وتصحيحات لبعض الرويات  والأقوال عدلوا فيها عن الشهور ، وجرى باختيارهم عمل الحكام والفتيا »([27])
وهذا ما أكده  أبو القاسم بن أحمد الأوزالي كذلك حينما سئل عن سعاية امرأة ، فقال :« ينبغي لنا أن نقف عند عادتهم ، ونأخذ بعلمهم ، (أي بعمل القضاة والمفتين ) ، ولا نتعداه ﺇلى غيره ، ولو وجدنا خلافا في القضية عند الفقهاء (...) وﺇذا ثبت ذلك ، أقول ﺇنه لا يجوز الحكم والفتوى في مسألة السؤال ﺇلا بالسعاية (...) وهذا ما علم في زماننا وقبله بكثير بالضرورة والقضاء »([28])
والمتتبع لفتاوى علماء النوازل بالسعاية يجدها تتضمن تصريحا واضحا بأن العمل أصل في الفتوى بالسعاية . وفي ذلك يقول الفقيه أحمد البعل : « جرى العمل في جبالنا هذه من الفقهاء المتقدمين بقسمة  ذلك على الرؤوس ، ممن له على الخدمة قدرة »([29])
وقال داود بن محمد([30]) :« الذي جرى به العمل عند فقهاء المصامدة وجزولة أن الزوجة شريكة لزوجها فيما أفاداه مالابتعنتها وكلفتها مدة انضمامهما ومعاونتهما ، ولا يستبد الزوج بما كتبه على نفسه »([31])


([1])   العين للفراهيدي .فصل الكاف ، باب الكاف والدال ( ك د) لسان العرب ( ك دد ) ، مختار الصحاح ( ك دد)
([2])   القاموس المحيط .باب الياء ، فصل السنين ( س ع ي)
([3])   النجم : 38
([4])   لسان العرب ( س ع ي )
([5])  المرجع نفسه
([6])  نظام الكد والسعاية للمكي الحسين ( ص : 12)
([7])  قضايا الأسرة ( ص : 102) ، نظام الكد والسعاية ( ص:12)
([8])  قضايا الأسرة ( ص : 102)
([9])  حق الزوجة في الكد والسعاية: 18
([10])  نظام الكد والسعاية ( ص:12)
([11])  نظام الكد والسعاية ( ص:12)
([12])  شرح العمل السوسي في الميدان القضائي ( ص: 281)
([13])  فقه النوازل في سوس قضايا وأعلام للحسن العبادي ( ص:416)، عمل المرأة في سوس للحسن العبادي ( ص:23)
([14])  ابن عرضون الكبير لعمر الجيدي ( ص : 194)
([15])  سورة النجم
([16])  ابن عرضون الكبير ( ص :194)
([17])  البقرة : 187
([18])  النساء :29
([19])  شرح العمل السوسي في الميدان ( ص :283) .والأثر المذكور بحثت عنه كثيرا في المظان الحديثية ، لكني لم أظفر به
([20])  هو أبو القاسم بن أحمد الأوزالي ، أحد علماء القرن الحادي عشر الهجري توفي بتارودانت .له كتب منها :المسفرات عن المكفرات .سوس العالمة ، ( ص:187) : العمل السوسي ( ص 282)
([21])  شرح العمل السوسي في الميدان القضائي ( ص:282- 283)
([22])  فتاوى تتحدى الاهمال في شفشاون وما حولها من الجبال ( 1/ 162)
([23])  هو أبو اسحاق ابراهيم بن حسن بن عبد الرفيع التونسي . قاضي القضاة وعلامة زمانه ، وفريد عصره وأوانه ، الفقيه الأصولي المتفنن  الفاضل العالم بالأحكام والنوازل .أخذ عن ابن شقر ، والقاضي ابن عبد الجبار الرعيني وغيرهما .له كتب من أشهرها : معين الحكام ، واختصار أجوبة ابن رشد ، والبديع في شرح التفريع ، وغيرها .توفي  سنة 733هـ شجرة النور الزكية ( 1/ 296 – 297 )، تر : 751
([24])فقه النوازل في سوس ( ص : 417). عمل المرأة في سوس ( ص :24)
([25])  المرأة بين أحكام الفقه والدعوة الى التغيير .لعبد الكبير العلوي المدغري ( ص:205)
([26])هو أبو زكرياء يحيى بن محم الحميدي الشهير بالسراج .الفقيه الخطيب المفتي ، خطيب القرويين ، ومفتي مدينة فاس . أخذ عن عبد الوهاب بن محمد الزقاق التجيبي وعبد الوهاب بن أحمد الونشريسي وغيرهما . توفي رحمه الله سنة 1007 هـ . درة الحجال ( ص : 450) ، تر :1469. سلوة الانفس (2/ 159-160) تر: 566
([27])  نوازل العلمي .تح : المجلس العلمي بفاس (2/ 104)
([28])  شرح العمل السوسي في الميدان القضائي ( ص: 282-283)
([29])  نوازل العلمي (2/ 103) ، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل (4/37)
([30])  هو داود بن محمد بن عبد الحق النونلي التيملي أو التملي ، فقيه عصره ووحيد مصره ، كان فقيها حيسوبيا عالما عاملا ورعا صالحا . أخذ عن العالم الجليل حسين الشوشاوي وبه ثفقه. وأخذ عنه حسين الرسموكي وغيره .من مؤلفاته وسلة النشأة ، وأجوبة لأسئلة حسين الرسموكي ، وأمهات الوثائق ، وشرح تنقيح القرافي ، وشرح على رجز الرجراجي في علم الميقات .توفي رحمه الله سنة 899هـ وقيل سنة 900 هـ .المعسول (6/ 169) .سوس العالمة (ص: 179) درة الحجال (ص :137)، تر: 408. وفيات الرسموكي ،(ص:40)
([31])  شرح العمل السوسي في الميدان القضائي (ص :283)





تعليقات